المحطة الثالثة عشر
**
نحن الآن في بيت خديجة. وهى جالسة مع صديقتها نفيسة بنت منية التي خطبتها لمحمد.
وقد خرج محمد لبعض شأنه وبصحبته مولاه زيد بن حارثة.
جلست نفيسة تقص علينا خبر زواج محمد من خديجة.. قالت:
حدث الزواج بعد رجوع محمد من الشام بشهرين، وقد دفع صداقاً لخديجة بلغ عشرين بكرة "ناقة".. وخديجة هي أول امرأة تزوجها محمد ولم يتزوج قبلها..
****
وكانت خديجة تتدخل بين الحين والآخر لتضيف معلومة هنا ومعلومة هناك.
وسألتها ( ابتسامة الحياة : ) فقالت: صفي لنا أحوال محمد يا خديجة؟
فقالت خديجة: (إن محمداً صائب الفكر سديد النظر حسن الفطنة.. وهو كثير الصمت قليل الكلام، طويل التأمل، أصيل الفكرة , سديد الهدف والوسيلة , ويستكنه الحق.. ويطالع بعقله وفطرته صحائف الحياة وشؤون الناس..
وهو لا يشرب الخمر ولا يأكل مما يذبح على الأنصاب، ولا يحضر عيداً للآت والعزى ولا غيرها، ولا يشارك في احتفالاتها، بل إنه ينفر منها نفوراً شديداً ويبغضها فليس شيء أبغض إليه منها، ولا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى..
وهو عذب الخلال فاضل الأخلاق، كريم الشمائل، عظيم المروءة حسن الخلق، عزيز الجوار، عظيم الحلم، صادق الحديث، لين العريكة، عفيف النفس، كثير الخير، متقن للعمل، وفي العهد، أمين الأمانة حتى سماه الناس "الأمين".
إن محمداً يحمل الكل ويكسب المعدوم ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق.
وبينما نحن جلوس نستمع لصفات محمد من خديجة إذا بصراخ يعلو وأصوات قادمة من ناحية الكعبة.. وهرعنا نحو الكعبة واستقبلنا زيد بن حارثة وهو يعدو نحونا.
قالت مأساة ضاحكة : ما الذي حدث يا زيد؟
قال زيد: لصوص سرقوا كنوز الكعبة.
وعلت الدهشة وجوهنا جميعاً..
قالت محبة الله ورسوله : وهل في الكعبة كنوز؟
قال زيد: (كان في الكعبة معادن وحُلي وتماثيل ذهبية، وكان يطلق عليها كنز الكعبة) لكن اللصوص انتهزوا فرصة تصدع جدران الكعبة فدخلوا وسرقوا الكنز.
قالت حبيبة الرحمن :ومن تجرأ وسرقه من الكعبة ؟
قيل إنه / دويكا مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة .
وأن قريشا فقطعت يده .
وقيل أيضا : ربما لم يسرق وأن الذين سرقوه وضعوا المكنز عند دويك .
قالت ثغر اليمن : وما الذي صدع جدران الكعبة يا زيد؟
قال زيد: تعلمون أن الكعبة كانت رضماً من الحجارة غير مبنية وطولها يتجاوز قامة الإنسان بقليل أي ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السلام، وليس لها سقف.. وفوق ذلك فقد تعرضت للتصدع بمرور الزمن. ثم جاء السيل العارم الذي شهدته مكة قبل أيام والذي انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة على الانهيار، وانتهز اللصوص الفرصة وسرقوا الكنز.
ولما رجعنا إلى بيت خديجة قالت لنا: إن محمداً قد رجع بعد ذهابكم وأخبرني أن قريشاً تعتزم تجديد بناء الكعبة حرصاً على مكانتها، وأنه عازم على إعادة بنائها معهم وهو الآن عند صحن الكعبة.
هاهو أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم . وأبو وهب هو خال أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان شريفا.
بدأ في الهدم فأخذ من الكعبة حجرا ، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه .
عندها قال يا معشر قريش: لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا ، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس
فاتفقت قريش على ذلك .
قالت نفيسة / وهل مازالت تلك الحية موجودة ؟؟ تخرج من بئر الكعبة ؟
قال زيد : نعم , إنها تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم , فتتشرق على جدار الكعبة .
قالت نارمين 222 : أي حية ؟! ولماذا لم يقتلوها ؟؟
قال زيد : كانت قريش مما يهابون وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت (أي رفعت ذنبها )، وكشت ( أي صوتت ) وفتحت فاها ..
فتأتـي صفاء المصرية مسرعة تخبرنا بخير مخيف : إن البحر كان هائج اليوم و قد رمى على الشاطئ سفينة لرجل من تجار الروم ، فتحطمت
قالت أم مودة : وأين رماها ؟
قيل في جدة , وقيل في الشعيبة ( بحر مكة ) ..
ثم قالت رملة :
إني أرى نفرا من قريش تذهب إلى هناك لتساعد أصحاب السفينة , ثم اشتروا خشب تلك السفينة لبناء الكعبة وسقفها ..
وبينما نحن عند خديجة إذا بالعباس بن عبد المطلب يدخل علينا مبتسما
ويخبرنا بأن الله أرسل طائرا على تلك الحية فاختطفها وهي تتشرق على جدار الكعبة , وذهب بها .
وتفاءلت قريش بذلك وقالت / إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية .
فتبادر ( الجود ) فتسأل : ما هي أخبار الكعبة يا عباس؟
فيقول العباس: ذهبت قريش لتهدم الكعبة وتعيد بناءها.. وكانت قريش كلها خائفة .. فما زالت حادثة الطير الأبابيل التي أهلكت جيش أبرهة قبل خمس وثلاثين سنة ماثلة للأعين.. ولذلك فقد كانت قريش خائفة جداً..
ولم يتقدم أحد ليبدأ بالهدم.. ولما وقفوا طويلاً تقدم
الوليد بن المغيرة المخزومى، فأخذ المعول وقال: اللّهم لا نريد إلا الخير، فأزال حجراً.. ولم يحدث له شيء.. ثم حجراً ثانياً , ثم هدم ناحية الركنين، ولما لم يصبه شيء .
تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم
ولما وصلوا إلى قواعد إبراهيم وأرادوا الاستمرار في الهدم لم يستطيعوا إزالة حجرا واحدا من مكانه.. فتركوا القواعد كما هي
ثم أرادوا الأخذ في البناء
فطلبوا مهندسا ماهرا , فتم اختيارهم على بناء رومي اسمه:( باقوم)
فوضع لهم خطة , وذلك بتجزئة الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا تبنيه .
فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوا يبنونها .
(
)
(
)
واستمر العباس في حكايته فقال:
ذهبنا أنا ومحمد ننقل الحجارة لبناء الكعبة، وخفت عليه من أثر الحجارة على كتفه فقد كان يحمل حجارة كبيرة لا يقدر على حملها رجلان أو ثلاثة حتى أثرت على كتفه، فأشفقت عليه وقلت: يا ابن أخي اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة.. وكنت أعلم أنه إن فعل ذلك فستبين عورته ولكنني كنت أخشى على رقبته أن تؤذيها الحجارة.... فلما فعل ذلك أغمى عليه وخرَّ إلى الأرض ووقع وطمحت عيناه إلى السماء ينظر إليها... ثم أفاق فقال: إزاري، إزاري، فشد عليه إزاره..
(
)
(
)
وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا سقفوه على ستة أعمدة.
***
ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفت القبائل فيمن يمتاز بشرف وضع الحجر الأسود في مكانه..
واستمر النزاع أربع أو خمس ليال واشتد حتى كاد أن يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم.
وعرض أبو أمية بن المغيرة المخزومي على رؤساء القبائل أن يحكموا بينهم أول شخص يدخل من باب الحرم فرضوا ووافقوا على ذلك.. فدخل عليهم محمد فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد..
فلما وصل محمد وأخبروه الخبر طلب رداء، فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء،
وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده الشريفة فوضعه في مكانه..
ذهبنا لرؤية الكعبة وبدأت المهندسة الشاكرة لله تصفها لنا فقالت: انظروا إنها
ذات شكل مربع تقريبًا، يبلغ ارتفاعه 15 مترًا، وطول ضلعه الذي فيه الحجر الأسود والمقابل له 10 أمتار، والحجر موضوع على ارتفاع 1.50متر من أرضية المطاف. والضلع الذي فيه الباب والمقابل له 12مترًا، وبابها على ارتفاع مترين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها، متوسط ارتفاعها 0.25مترًا ومتوسط عرضها 0.30 مترًا وتسمى بالشاذروان، وهي من أصل البيت لكن قريشًا تركتها ولم تدخلها في البناء.
---
قال العباس:
سأخبركم في المحطة القادمة
,
كيف عظمت قريش البيت الحرام
,
وتغالت في ذلك .