المحطة الخامسة عشر
التجلي الأعظم ..
عاود بنا قطار السيرة انطلاقته فاتجه إلى الجزء الشمالي من مكة وتوقف عند مدخل جبل النور على بعد خمسة كيلومترات من مكة يرتفع 634متر.. ونزلنا عند أسفل الجبل ونظرنا إلى الأعلى حيث يوجد غار حراء
.
وقررنا الصعود إلى الغار حيث يأتي محمد فيقيم في هذا الغار ومعه أهله قريبا منه ، يقيم شهر رمضان يقضي وقته في التفكر وفي مشاهدة الكون...
كان الصعود إلى الغار غير سهل ولا يسير.. ولكنه كان ممتعاً.. وقد أخذنا وقتا في الصعود المتواصل وصلنا إلى الغار
..
وكان الغار عبارة عن فجوة بابها نحو الشمال تسع نحو خمسة اشخاص جلوسا وارتفاعه قامة متوسطة.والواقف على هذا الجبل يرى مكة وابنيتها كما يرى جبل ثور.
ويكون هذا الغار مستقبلاً الكعبة من غير انحراف، وليس غيره كذلك.
قال العباس: إن محمداً يأخذ السويق و الماء و يأتي إلى هذا الغار معتزلاً قريش وأهل مكة جميعاً وكان يتوق لهذه العزلة وينقطع إليها
. وكان يفعل هذا كل سنة..
ولكن في هذه السنة حدث له أمر عجيب جداً.
قالت الجوهرة : وما هو يا عباس؟
قال العباس:
إن محمداً يرى الرؤيا فتأتي وتتحقق مثل فلق الصبح.
لقد أكمل اليوم أربعين سنة .
. واليوم هو يوم الاثنين لأربعة وعشرين من رمضان خلت
وكان محمد في هذا الغار قبل قدومكم ولكنه انطلق إلى خديجة مسرعاً..
ونحن بني العباس نقرأ تعابير الوجوه.. ولقد قرأت على وجه محمد شيئاً لم أكن أعهده فيه من قبل قط. وبالفعل تبعته حتى وصل إلى خديجة خائفاً يرجف فؤاده فقال لها:
زملوني زملوني.. فزملته خديجة حتى ذهب عنه الروع.. ثم سألته ما الذي حدث يا محمد؟
فقال لها
: بينما أنا في غار حراء إذ سمعت صوتاً فرفعت رأسي فإذا بملك يسد أقطار السماء بجناحيه فقال لي :
- يا محمد اقرأ
فقلت: ما أنا بقارئ
فأخذني فغطني (أي ضمني إليه) حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:
- اقرأ
فقلت: ما أنا بقارئ
-فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾
( ولقد خشيت على نفسي ) ..
فقالت خديجة: كلا , ابشر والله ، لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، و تحمل الكل ، و تكسب المعدوم و تقري الضيف ، و تعين على نوائب الحق.،
قال العباس:
وانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي ابن عمها –
و كان امرءاً تنصر في الجاهلية ، و كان شيخاً كبيراً قد عمي –
فقالت له خديجة : يا ابن العم ! اسمع من ابن أخيك ،
فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره خبر ما رأى
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزله الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً أي ( شابا ) ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ،
فقال رسول الله : أو مخرجي هم ؟
قال: نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، و إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
فقالت خديجة :
أبشر يا ابن العم ، واثبت ، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ،
قال ورقة لخديجة : قدوس قدوس ، و الذي نفس ورقة بيده لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ، و إنه لنبي هذه الأمة ، فقولي له : فليثبت .
وبعد هذه القصة بفترة وجيزة توفي ورقة ..
انطلق العباس يقص علينا في حماس أخبار الوحي..
قال:
انقطع الوحي فترة بعد تلك الأحداث في غار حراء ، ولم ير ابن أخي الوحى فبقى كئيباً محزوناً ، تعتريه الحيرة والدهشة و بلغ به الحزن والحيرة مبلغاً أنه غدا مراراً كى يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقاً ، فيسكن لذلك جأشه ، و تقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك. (1)
وكأنما كان انقطاع الوحي ليذهب ما كان وجده من الروع ، و ليحصل له التشوق إلى العود، فلما وجدت نفسه ذلك وتهيأت لاستقبال الوحي جاءه جبريل للمرة الثانية
قال ابن أخي: ((بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري؛ فإذا الملك الذي جاءني بـ(حراء) جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله : ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾[المدثر: 1-5] – فحمي الوحي وتتابع)).
.
قال العباس: لقد رأيتم غار حراء وسمعتم ما حدث لمحمد فيه، وإني لأظن أنه سيكون لهذا الغار وهذا اليوم شأن عظيم.. فهيا بنا نعود إلى مكة وأنتم ستكونون في ضيافتي فيها. وسوف أقص عليكم من أخبار محمد إن شئتم.
قالوا بنات الواحة :
نعم يا عباس فإننا نحب أن نسمع خبر محمد وخبر الوحي.
قال العباس
من الآن ( محمد ) هو (( رسول الله صلى الله عليه وسلم ))
وانطلق قطار السيرة عائدا إلى مكة.
وتوقف هنااااااك ..
يخبركم ربان القطار أن هذه هي المحطة الأخيرة من العربة الأولى من قطار السيرة
وهي كانت ( من ولادته عليه الصلاة والسلام إلى بعثته ) ..
ومصادر المعلومات كتب متنوعة , ومواقع عدة
ومن لديه شك في أي معلومة فليبحث عنها , وليستزيد منها , ويتأكد
فإن أخطأنا فمن أنفسنا والشيطان , وإن أصبنا بتوفيق من الله .
** العربة القادمة بإذن الله ستكون من ( بعثته إلى هجرته المدينة المنورة ) , وسنمر بعدة محطات جديدة .
إن استطاع قطارنا المسير , فسيكون هنا معكم في شهر رمضان الكريم ..
والآن
نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ..
------------
كشف الشبهات /
(1) ومع افتراض صحة هذه القصة جدلا، فليس فيها ما يعيب شخص النبي صلى الله عليه وسلم أو يقدح في عصمته، وبيان ذلك أنه قد همّ –على فرض صحة الرواية- بأن يلقي بنفسه، والهمّ هنا لم ينتقل إلى مرحلة التنفيذ، وذلك شبيهٌ بما حكاه الله تعالى عن يوسف عليه السلام في قوله: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه}، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: "ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز، دلّ على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة". وهذا كحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله) متفق عليه.
وأيضا: فإن تحريم قتل النفس لم يكن نازلا في شريعته صلى الله عليه وسلّم، إذ القصّة في بداية أمر الوحي .
ثم نقول: إن العصمة متحققة في هذه الحالة، ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى صرف عنه هذا السوء، كما صرف عنه قبل مبعثه حصول التعري، وشرب الخمر، والجلوس مع فتيان قريش، وغير ذلك مما هو مبثوث في السيرة.