السلام عليكم ورحمة الله وبركاته( كظم الغيظ)
--------------------------------------------------------------------------------
[ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي ذر رحمه الله ] :
يا أباذر من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر ، قلت : وما الثلاث فداك أبي وأمي ؟ قال : ورع يحجزه عمّا حرّم الله عزّوجلّ عليه ، وحلم يردّ به جهل السفيه ، وخلق يداري به الناس.
اعلم انّ الحلم وكظم الغيظ والعفو والصفح عن اساءة الناس من صفات الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم ، ومن صفات أولياء الله تعالى ، ويشهد العقل والشرع بحسن هذه الصفات الجميلة ، كما روي بسند معتبر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال في خطبته : ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة ؟ العفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ، والاحسان إلى من أساء إليك ، واعطاء من حرمك (1).
وروي عن عليّ بن الحسين عليه السلام انّه قال : اذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد ، ثم ينادي مناد ، أين أهل الفضل ؟
قال : فيقوم عنق من الناس ، فتلقّاهم الملائكة فيقولون : وما كان فضلكم ؟ فيقولون : كنّا نصل من قطعنا ، ونعطي من حرمنا ، ونعفو عمّن ظلمنا ، قال : فيقال لهم : صدقتم ادخلوا الجنّة (2).
وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال : الندامة على العفو أفضل وأيسر
____________
من الندامة على العقوبة (1).
وروي عن علي بن الحسين عليهما السلام انّه قال :... ما تجرّعت جرعة أحبّ إليّ من جرعة غيظ أُكافي بها صاحبها (2).
وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام : قال لي أبي : يا بنيّ ما من شيء أقرّ لعين أبيك من جرعة غيظ عاقبتها صبر... (3).
وروي عن أبي عبدالله عليه السلام انّه قال : ما من عبد كظم غيظاً الاّ زاده الله عزّوجلّ في الدنيا والآخرة ، وقد قال الله عزّوجلّ : (وَالكَاظِمينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاس وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ) (4) واثابه الله مكان غيظه ذلك (5).
وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال : من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمناً وايماناً يوم القيامة (6).
وروي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه السلام انّه قال : اصبر على أعداء النعم ، فانّك لن تكافي من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه (7).
وروي عن علي بن الحسين عليهما السلام انّه قال : انّه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه (8).
____________
3.
--------------------------------------------------------------------------------
وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال : انّ الله عزّوجلّ يحبّ الحييّ الحليم (1).
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : ما أعزّ الله بجهل قط ، ولا أذلّ بحلم قط (2).
وروي عن أبي عبدالله عليه السلام انّه قال : كفى بالحلم ناصراً ، وقال : اذا لم تكن حليماً فتحلّم (3).
وقال عليه السلام : اذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان ، فيقولان للسفيه منهما : قلت وقلت وأنت أهل لما قلت ، ستجزى بما قلت ، ويقولان للحليم منهما : صبرت وحلمت سيغفر الله لك إن أتممت ذلك ، قال : فإن ردّ الحليم عليه ارتفع الملكان (4).
وقال عليه السلام : انّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا (5).
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : قال عيسى بن مريم ليحيى بن زكريا عليهم السلام : اذا قيل فيك ما فيك فاعلم انّه ذنب ذكرته فاستغفر الله منه ، وان قيل فيك ما ليس فيك فاعلم انّه حسنة كتبت لك لم تتعب فيها (6).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة : شريف من وضيع ،
____________
.
--------------------------------------------------------------------------------
( 302 )
وحليم من سفيه ، وبرّ من فاجر (1).
وقال أبو عبدالله عليه السلام : ثلاث من كنّ فيه زوّجه الله من الحور العين كيف يشاء : كظم الغيظ ، والصبر على السيوف لله عزّوجلّ ، ورجل أشرف على مال حرام فتركه لله عزّوجلّ (2).
وقال عليه السلام : ثلاث خصال من كنّ فيه استكمل خصال الايمان : من صبر على الظلم ، وكظم الغيظ ، واحتسب وعفى وغفر ، كان ممن يدخله الله عزّوجلّ الجنّة بغير حساب ، ويشفّعه في مثل ربيعة ومضر (3).
وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال : من ملك نفسه اذا رغب ، واذا رهب ، واذا غضب حرّم الله جسده على النار (4).
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي ولا من الله عزّوجلّ ، قيل : يا رسول الله وما هنّ ؟ قال : حلم يردّ به جهل الجاهل ، وحسن خلق يعيش به في الناس ، وورع يحجزه عن معاصي الله عزّوجلّ (5).
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : انّ العفو يزيد صاحبه عزّاً ، فاعفوا يعزّكم الله... (6).
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : من كظم غيظاً ملأ الله جوفه ايماناً ، ومن عفى من
____________
(.
--------------------------------------------------------------------------------
( 303 )
مظلمة أبدله الله بها عزّاً في الدنيا والآخرة (1).
وروي بسند معتبر انّه سئل أمير المؤمنين عليه السلام : أيّ الخلق أقوى ؟ قال : الحليم ، وسئل من أحلم الناس ؟ قال : الذي لا يغضب (2).
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأحزم الناس أكظمهم للغيظ (3).
وروي بأسانيد معتبرة في تفسير قوله تعالى : (فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَمِيلَ) (4) قال : العفو من غير عتاب (5).
وروي بسند معتبر عن أبي الحسن الثالث [ عليّ النقي ] عليه السلام انّه قال : كان فيما ناجى الله موسى بن عمران عليه السلام أن قال : الهي ما جزاء من صبر على أذى الناس وشتمهم فيك ؟ قال : أُعينه على أهوال يوم القيامة (6).
وروي بسند معتبر عن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام انّه قال : أوحى الله عزّوجلّ إلى نبيّ من أنبيائه : اذا أصحبت فأوّل شيء يستقبلك فكله ، والثاني فاكتمه ، والثالث فاقبله ، والرابع فلا تؤيسه ، والخامس فاهرب منه.
قال : فلمّا أصبح مضى فاستقبله جبل أسود عظيم ، فوقف وقال : أمرني ربي عزّوجلّ أن آكل هذا ، وبقي متحيّراً ثم رجع إلى نفسه فقال : انّ ربّي جلّ جلاله لا
____________
.
--------------------------------------------------------------------------------
يأمرني الاّ بما أطيق ، فمشى إليه ليأكله ، فلمّا دنا منه صغر حتى انتهى إليه فوجده لقمة ، فأكلها فوجدها أطيب شيء أكله.
ثم مضى فوجد طشتاً من ذهب ، فقال : أمرني ربي عزّ وجلّ أن أكتم هذا ، فحفر له وجعله فيه وألقى عليه التراب ، ثم مضى فالتفت فاذا الطشت قد ظهر ، فقال : قد فعلت ما أمرني ربيّ عزّوجلّ.
فمضى فاذا هو بطير وخلفه بازيّ فطاف الطير حوله ، فقال : أمرني ربّي عزّوجلّ أن أقبل هذا ، ففتح كمّه فدخل الطير فيه ، فقال له البازيّ : أخذت منّي صيدي وأنا خلفه منذ أيام ، فقال : أمرني ربي عزّوجلّ أن لا أويس هذا ، فقطع من فخذه قطعة فالقاها إليه ثم مضى ، فلمّا مضى فاذا هو بلحم ميتة منتن مدود ، فقال : أمرني ربي عزّ وجلّ أن أهرب من هذا ، فهرب منه.
فرجع فرأى في المنام كأنّه قد قيل له : انّك قد فعلت ما أمرت به فهل تدري ماذا كان ؟ قال : لا ، قيل له : أمّا الجبل فهو الغضب ، انّ العبد اذا غضب لم ير نفسه وجهل قدره من عظم الغضب ، فاذا حفظ نفسه وعرف قدره وسكّن غضبه كانت عاقبته كاللقمة الطيبة التي أكلتها.
وأمّا الطشت فهو العمل الصالح اذا كتمه العبد وأخفاه أبى الله عزّوجلّ الاّ أن يظهره ليزيّنه به مع ما يدّخر له من ثواب الآخرة ، وأمّا الطير فهو الرجل الذي يأتيك بنصيحة فاقبله واقبل نصيحته ، وأمّا البازي فهو الرجل الذي يأتيك في حاجة فلا تؤيسه ، وأمّا اللحم المنتن فهي الغيبة فاهرب منها (1).
عزيزي ، لو أردت العلم بفضل الحلم وكظم الغيظ فانظر إلى أحوال انبياء
____________
الله وكيف لاقوا المتاعب والأذى من فجار أممهم من المنحرفين ، ولكنهم كظموا الغيظ سيّما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مع ما لقى من كفّار قريش وغيرهم من الأذى والمحن ومع كلّ هذا لم يدع عليهم ولو مرّة واحدة.
وانظر إلى معدن الآداب ومفخر أولي الألباب كيف سلك مع أجلاف العرب وما لقى منهم من الاهانة والتجاسر وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم يعفو ويصفح ، كما روي انّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أدركه أعرابيّ فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة... وقد أثرت به حاشية الرداء من شدّه جبذته ، ثم قال له : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فضحك وأمر له بعطاء (1).
وبعد هذا أنزل الله تعالى : (وَاِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (2).
انّ قريش مع ما صنعت به من الأذى لكن لما فتح مكة وأسروا وحضروا مسجد الحرام من دون سلاح وقف صلّى الله عليه وآله وسلّم عند باب الكعبة وهم ينتظرون العقوبة فسألوه عمّا يصنع بهم ، فقال : أفعل ما فعل يوسف باخوته ، لا تثريب عليكم اليوم ولو أسلمتم يغفر الله لكم (3).
روي بسند معتبر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال : انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أُتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال لها : ما حملك على ما صنعت ؟ فقالت : قلت : إن كان نبياً لم يضرّه ، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه ، قال : فعفا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنها (4).
____________
وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال : انّ يهودياً كان له على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دنانير فتقاضاه ، فقال له : يا يهوديّ ما عندي ما أعطيك ، فقال : فانّي لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني ، فقال : اذاً أجلس معك.
فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة ، وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتهدّدونه ويتواعدونه ، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم فقال : ما الذي تصنعون به ؟ فقالوا : يا رسول الله يهوديّ يحبسك ؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : لم يبعثني ربّي عزّوجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره.
فلما علا النهار قال اليهوديّ : أشهد أن لا اله الاّ الله ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، وشطر مالي في سبيل الله ، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت الاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة ، فانّي قرأت نعتك في التوراة :
«محمد بن عبدالله مولده بمكة ، ومهاجره بطيبة ، وليس بفظّ ولا غليظ ، ولا سخّاب ، ولا متزيّن بالفحش ، ولا قول الخناء».
وأنا أشهد أن لا اله الاّ الله ، وأنّك رسول الله ، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله ، وكان اليهودي كثير المال.
ثم قال عليه السلام : كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عباءة ، وكانت مرفقته أدم حشوها ليف ، فثنّيت له ذات ليلة فلمّا أصبح قال : لقد منعني الفراش الليلة الصلاة ، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجعل بطاق واحد (1).
وانظر ما لقى أمير المؤمنين عليه السلام من المحن من أصحاب رسول الله صلّى الله
____________
(.
--------------------------------------------------------------------------------
عليه وآله وسلّم ومن أصحابه لكنه عفا عنهم عند القدرة ، كما عفا عن أصحاب الجمل الذين قاتلوه وقتلو أصحابه ، وأرسل عائشة إلى المدينة في غاية الاحترام ، وأرسل معها سبعين امرأة.
وأخلى سبيل مروان بن الحكم مع ما لقى منه من الأذى ، وكذلك صنع مع أصحاب النهروان وغيرهم ، وأوصى عليه السلام ابنه الحسن عليه السلام أن لا يضرب ابن ملجم اللعين أكثر من ضربة واحدة ، وأن لا يمثّل به ، وأن يُعطى من الماء والغذاء الذي كان هو عليه السلام يأكله.
وقد كان آلاف الخوارج في اصحابه ونسبوه عليه السلام ـ وهو مفخر الايمان ـ إلى الكفر علانية ، لكنّه كان يعفي ويصفح ولم يتعرّض لهم.
روي انّ أمير المؤمنين عليه السلام مرّ بأصحاب التمر ، فاذا هو بجارية تبكي ، فقال : يا جارية ما يبكيك ؟ فقالت : بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه ، فلمّا أتيته به أبى أن يقبله.
قال : يا عبدالله انّها خادم وليس لها أمر فاردد إليها درهما وخذ التمر ، فقام إليه الرجل فلكزه (1) ، فقال الناس : هذا أمير المؤمنين ، فربا الرجل واصفر وأخذ التمر وردّ إليها درهمها ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ارض عنّي ، فقال : ما أرضاني عنك ان أصلحت أمرك.
ودعا عليه السلام غلاماً له مراراً فلم يجبه ، فخرج فوجده على باب البيت ، فقال : ما حملك على ترك اجابتي ؟ قال : كسلت عن اجابتك وأمنت عقوبتك ، فقال : الحمد لله الذي جعلني ممّن يأمنه خلقه ، امض فأنت حرّ لوجه الله (2).
____________
(
وروي انّه لما أدرك عمرو بن عبد ود لم يضربه ، فوقعوا في عليّ عليه السلام فردّ عنه حذيفة ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : مه يا حذيفة فإنّ عليّاً سيذكر سبب وقفته ، ثمّ انّه ضربه ، فلمّا جاء سأله النبي عن ذلك ، فقال : قد كان شتم أمّي وتفل في وجهي ، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله (1).
وروي أيضاً انّه نظر عليّ عليه السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء ، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها وسألها عن حالها ، فقالت : بعث عليّ بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل وترك عَلَيَّ صبياناً يتامى ، وليس عندي شيء ، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس.
فانصرف وبات ليلته قلقاً ، فلما أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام ، فقال بعضهم : أعطني أحمله عنك ، فقال : من يحمل وزري عنّي يوم القيامة ؟ فأتى وقرع الباب ، فقالت : من هذا ؟ قال : أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة فافتحي فإنّ معي شيئاً للصبيان.
فقالت : رضي الله عنك وحكم بيني وبين عليّ بن أبي طالب ، فدخل وقال : انّي أحببت اكتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعلّلين الصبيان لأخبز أنا ، فقالت : أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر ، ولكن شأنك والصبيان ، فعلّلهم حتى أفرغ من الخبز.
قال : فعمدت إلى الدقيق فعجنته ، وعمد عليّ عليه السلام إلى اللحم فطبخه وجعل يلقّم الصبيان من اللحم والتمر وغيره ، فكلّما ناول الصبيان من ذلك شيئاً
____________
.
--------------------------------------------------------------------------------
قال له : يا بنيّ اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ ممّا أمر في أمرك.
فلمّا اختمر العجين قالت : يا عبدالله اسجر التنور ، فبادر لسجره ، فلمّا أشعله ولفح في وجهه جعل يقول : ذق يا عليّ هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى ، فرأته امرأة تعرفه فقالت : ويحك هذا أمير المؤمنين ، قال : فبادرت المرأة وهي تقول : واحيائي منك يا أمير المؤمنين ، فقال : بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك (1).
وروي أيضاً انّه دخل ضرار بن ضمرة الليثي على معاوية فقال له : صف لي عليّا فقال : أو تعفني من ذلك ، فقال : لا أعفيك.
فقال : كان والله بعيد المدى (2) ، شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته.
كان والله غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلّب كفّيه ويخاطب نفسه ، ويناجي ربّه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، كان والله فينا كأحدنا ، يدنينا اذا أتيناه ، ويجيبنا اذا سألناه.
وكان مع دنوّه منّا وقربنا معه لا نكلّمه لهيبته ، ولا نرفع عيننا لعظمته ، فان تبسم فمن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظّم أهل الدين ، ويحبّ المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الفقير من عدله.
فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت
____________
--------------------------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------------------------
[ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي ذر رحمه الله ] :
يا أباذر من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر ، قلت : وما الثلاث فداك أبي وأمي ؟ قال : ورع يحجزه عمّا حرّم الله عزّوجلّ عليه ، وحلم يردّ به جهل السفيه ، وخلق يداري به الناس.
اعلم انّ الحلم وكظم الغيظ والعفو والصفح عن اساءة الناس من صفات الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم ، ومن صفات أولياء الله تعالى ، ويشهد العقل والشرع بحسن هذه الصفات الجميلة ، كما روي بسند معتبر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال في خطبته : ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة ؟ العفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ، والاحسان إلى من أساء إليك ، واعطاء من حرمك (1).
وروي عن عليّ بن الحسين عليه السلام انّه قال : اذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد ، ثم ينادي مناد ، أين أهل الفضل ؟
قال : فيقوم عنق من الناس ، فتلقّاهم الملائكة فيقولون : وما كان فضلكم ؟ فيقولون : كنّا نصل من قطعنا ، ونعطي من حرمنا ، ونعفو عمّن ظلمنا ، قال : فيقال لهم : صدقتم ادخلوا الجنّة (2).
وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال : الندامة على العفو أفضل وأيسر
____________
من الندامة على العقوبة (1).
وروي عن علي بن الحسين عليهما السلام انّه قال :... ما تجرّعت جرعة أحبّ إليّ من جرعة غيظ أُكافي بها صاحبها (2).
وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام : قال لي أبي : يا بنيّ ما من شيء أقرّ لعين أبيك من جرعة غيظ عاقبتها صبر... (3).
وروي عن أبي عبدالله عليه السلام انّه قال : ما من عبد كظم غيظاً الاّ زاده الله عزّوجلّ في الدنيا والآخرة ، وقد قال الله عزّوجلّ : (وَالكَاظِمينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاس وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ) (4) واثابه الله مكان غيظه ذلك (5).
وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال : من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمناً وايماناً يوم القيامة (6).
وروي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه السلام انّه قال : اصبر على أعداء النعم ، فانّك لن تكافي من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه (7).
وروي عن علي بن الحسين عليهما السلام انّه قال : انّه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه (8).
____________
3.
--------------------------------------------------------------------------------
وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال : انّ الله عزّوجلّ يحبّ الحييّ الحليم (1).
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : ما أعزّ الله بجهل قط ، ولا أذلّ بحلم قط (2).
وروي عن أبي عبدالله عليه السلام انّه قال : كفى بالحلم ناصراً ، وقال : اذا لم تكن حليماً فتحلّم (3).
وقال عليه السلام : اذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان ، فيقولان للسفيه منهما : قلت وقلت وأنت أهل لما قلت ، ستجزى بما قلت ، ويقولان للحليم منهما : صبرت وحلمت سيغفر الله لك إن أتممت ذلك ، قال : فإن ردّ الحليم عليه ارتفع الملكان (4).
وقال عليه السلام : انّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا (5).
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : قال عيسى بن مريم ليحيى بن زكريا عليهم السلام : اذا قيل فيك ما فيك فاعلم انّه ذنب ذكرته فاستغفر الله منه ، وان قيل فيك ما ليس فيك فاعلم انّه حسنة كتبت لك لم تتعب فيها (6).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة : شريف من وضيع ،
____________
.
--------------------------------------------------------------------------------
( 302 )
وحليم من سفيه ، وبرّ من فاجر (1).
وقال أبو عبدالله عليه السلام : ثلاث من كنّ فيه زوّجه الله من الحور العين كيف يشاء : كظم الغيظ ، والصبر على السيوف لله عزّوجلّ ، ورجل أشرف على مال حرام فتركه لله عزّوجلّ (2).
وقال عليه السلام : ثلاث خصال من كنّ فيه استكمل خصال الايمان : من صبر على الظلم ، وكظم الغيظ ، واحتسب وعفى وغفر ، كان ممن يدخله الله عزّوجلّ الجنّة بغير حساب ، ويشفّعه في مثل ربيعة ومضر (3).
وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال : من ملك نفسه اذا رغب ، واذا رهب ، واذا غضب حرّم الله جسده على النار (4).
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي ولا من الله عزّوجلّ ، قيل : يا رسول الله وما هنّ ؟ قال : حلم يردّ به جهل الجاهل ، وحسن خلق يعيش به في الناس ، وورع يحجزه عن معاصي الله عزّوجلّ (5).
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : انّ العفو يزيد صاحبه عزّاً ، فاعفوا يعزّكم الله... (6).
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : من كظم غيظاً ملأ الله جوفه ايماناً ، ومن عفى من
____________
(.
--------------------------------------------------------------------------------
( 303 )
مظلمة أبدله الله بها عزّاً في الدنيا والآخرة (1).
وروي بسند معتبر انّه سئل أمير المؤمنين عليه السلام : أيّ الخلق أقوى ؟ قال : الحليم ، وسئل من أحلم الناس ؟ قال : الذي لا يغضب (2).
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأحزم الناس أكظمهم للغيظ (3).
وروي بأسانيد معتبرة في تفسير قوله تعالى : (فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَمِيلَ) (4) قال : العفو من غير عتاب (5).
وروي بسند معتبر عن أبي الحسن الثالث [ عليّ النقي ] عليه السلام انّه قال : كان فيما ناجى الله موسى بن عمران عليه السلام أن قال : الهي ما جزاء من صبر على أذى الناس وشتمهم فيك ؟ قال : أُعينه على أهوال يوم القيامة (6).
وروي بسند معتبر عن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام انّه قال : أوحى الله عزّوجلّ إلى نبيّ من أنبيائه : اذا أصحبت فأوّل شيء يستقبلك فكله ، والثاني فاكتمه ، والثالث فاقبله ، والرابع فلا تؤيسه ، والخامس فاهرب منه.
قال : فلمّا أصبح مضى فاستقبله جبل أسود عظيم ، فوقف وقال : أمرني ربي عزّوجلّ أن آكل هذا ، وبقي متحيّراً ثم رجع إلى نفسه فقال : انّ ربّي جلّ جلاله لا
____________
.
--------------------------------------------------------------------------------
يأمرني الاّ بما أطيق ، فمشى إليه ليأكله ، فلمّا دنا منه صغر حتى انتهى إليه فوجده لقمة ، فأكلها فوجدها أطيب شيء أكله.
ثم مضى فوجد طشتاً من ذهب ، فقال : أمرني ربي عزّ وجلّ أن أكتم هذا ، فحفر له وجعله فيه وألقى عليه التراب ، ثم مضى فالتفت فاذا الطشت قد ظهر ، فقال : قد فعلت ما أمرني ربيّ عزّوجلّ.
فمضى فاذا هو بطير وخلفه بازيّ فطاف الطير حوله ، فقال : أمرني ربّي عزّوجلّ أن أقبل هذا ، ففتح كمّه فدخل الطير فيه ، فقال له البازيّ : أخذت منّي صيدي وأنا خلفه منذ أيام ، فقال : أمرني ربي عزّوجلّ أن لا أويس هذا ، فقطع من فخذه قطعة فالقاها إليه ثم مضى ، فلمّا مضى فاذا هو بلحم ميتة منتن مدود ، فقال : أمرني ربي عزّ وجلّ أن أهرب من هذا ، فهرب منه.
فرجع فرأى في المنام كأنّه قد قيل له : انّك قد فعلت ما أمرت به فهل تدري ماذا كان ؟ قال : لا ، قيل له : أمّا الجبل فهو الغضب ، انّ العبد اذا غضب لم ير نفسه وجهل قدره من عظم الغضب ، فاذا حفظ نفسه وعرف قدره وسكّن غضبه كانت عاقبته كاللقمة الطيبة التي أكلتها.
وأمّا الطشت فهو العمل الصالح اذا كتمه العبد وأخفاه أبى الله عزّوجلّ الاّ أن يظهره ليزيّنه به مع ما يدّخر له من ثواب الآخرة ، وأمّا الطير فهو الرجل الذي يأتيك بنصيحة فاقبله واقبل نصيحته ، وأمّا البازي فهو الرجل الذي يأتيك في حاجة فلا تؤيسه ، وأمّا اللحم المنتن فهي الغيبة فاهرب منها (1).
عزيزي ، لو أردت العلم بفضل الحلم وكظم الغيظ فانظر إلى أحوال انبياء
____________
الله وكيف لاقوا المتاعب والأذى من فجار أممهم من المنحرفين ، ولكنهم كظموا الغيظ سيّما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مع ما لقى من كفّار قريش وغيرهم من الأذى والمحن ومع كلّ هذا لم يدع عليهم ولو مرّة واحدة.
وانظر إلى معدن الآداب ومفخر أولي الألباب كيف سلك مع أجلاف العرب وما لقى منهم من الاهانة والتجاسر وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم يعفو ويصفح ، كما روي انّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أدركه أعرابيّ فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة... وقد أثرت به حاشية الرداء من شدّه جبذته ، ثم قال له : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فضحك وأمر له بعطاء (1).
وبعد هذا أنزل الله تعالى : (وَاِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (2).
انّ قريش مع ما صنعت به من الأذى لكن لما فتح مكة وأسروا وحضروا مسجد الحرام من دون سلاح وقف صلّى الله عليه وآله وسلّم عند باب الكعبة وهم ينتظرون العقوبة فسألوه عمّا يصنع بهم ، فقال : أفعل ما فعل يوسف باخوته ، لا تثريب عليكم اليوم ولو أسلمتم يغفر الله لكم (3).
روي بسند معتبر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال : انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أُتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال لها : ما حملك على ما صنعت ؟ فقالت : قلت : إن كان نبياً لم يضرّه ، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه ، قال : فعفا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنها (4).
____________
وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال : انّ يهودياً كان له على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دنانير فتقاضاه ، فقال له : يا يهوديّ ما عندي ما أعطيك ، فقال : فانّي لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني ، فقال : اذاً أجلس معك.
فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة ، وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتهدّدونه ويتواعدونه ، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم فقال : ما الذي تصنعون به ؟ فقالوا : يا رسول الله يهوديّ يحبسك ؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : لم يبعثني ربّي عزّوجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره.
فلما علا النهار قال اليهوديّ : أشهد أن لا اله الاّ الله ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، وشطر مالي في سبيل الله ، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت الاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة ، فانّي قرأت نعتك في التوراة :
«محمد بن عبدالله مولده بمكة ، ومهاجره بطيبة ، وليس بفظّ ولا غليظ ، ولا سخّاب ، ولا متزيّن بالفحش ، ولا قول الخناء».
وأنا أشهد أن لا اله الاّ الله ، وأنّك رسول الله ، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله ، وكان اليهودي كثير المال.
ثم قال عليه السلام : كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عباءة ، وكانت مرفقته أدم حشوها ليف ، فثنّيت له ذات ليلة فلمّا أصبح قال : لقد منعني الفراش الليلة الصلاة ، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجعل بطاق واحد (1).
وانظر ما لقى أمير المؤمنين عليه السلام من المحن من أصحاب رسول الله صلّى الله
____________
(.
--------------------------------------------------------------------------------
عليه وآله وسلّم ومن أصحابه لكنه عفا عنهم عند القدرة ، كما عفا عن أصحاب الجمل الذين قاتلوه وقتلو أصحابه ، وأرسل عائشة إلى المدينة في غاية الاحترام ، وأرسل معها سبعين امرأة.
وأخلى سبيل مروان بن الحكم مع ما لقى منه من الأذى ، وكذلك صنع مع أصحاب النهروان وغيرهم ، وأوصى عليه السلام ابنه الحسن عليه السلام أن لا يضرب ابن ملجم اللعين أكثر من ضربة واحدة ، وأن لا يمثّل به ، وأن يُعطى من الماء والغذاء الذي كان هو عليه السلام يأكله.
وقد كان آلاف الخوارج في اصحابه ونسبوه عليه السلام ـ وهو مفخر الايمان ـ إلى الكفر علانية ، لكنّه كان يعفي ويصفح ولم يتعرّض لهم.
روي انّ أمير المؤمنين عليه السلام مرّ بأصحاب التمر ، فاذا هو بجارية تبكي ، فقال : يا جارية ما يبكيك ؟ فقالت : بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه ، فلمّا أتيته به أبى أن يقبله.
قال : يا عبدالله انّها خادم وليس لها أمر فاردد إليها درهما وخذ التمر ، فقام إليه الرجل فلكزه (1) ، فقال الناس : هذا أمير المؤمنين ، فربا الرجل واصفر وأخذ التمر وردّ إليها درهمها ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ارض عنّي ، فقال : ما أرضاني عنك ان أصلحت أمرك.
ودعا عليه السلام غلاماً له مراراً فلم يجبه ، فخرج فوجده على باب البيت ، فقال : ما حملك على ترك اجابتي ؟ قال : كسلت عن اجابتك وأمنت عقوبتك ، فقال : الحمد لله الذي جعلني ممّن يأمنه خلقه ، امض فأنت حرّ لوجه الله (2).
____________
(
وروي انّه لما أدرك عمرو بن عبد ود لم يضربه ، فوقعوا في عليّ عليه السلام فردّ عنه حذيفة ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : مه يا حذيفة فإنّ عليّاً سيذكر سبب وقفته ، ثمّ انّه ضربه ، فلمّا جاء سأله النبي عن ذلك ، فقال : قد كان شتم أمّي وتفل في وجهي ، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله (1).
وروي أيضاً انّه نظر عليّ عليه السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء ، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها وسألها عن حالها ، فقالت : بعث عليّ بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل وترك عَلَيَّ صبياناً يتامى ، وليس عندي شيء ، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس.
فانصرف وبات ليلته قلقاً ، فلما أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام ، فقال بعضهم : أعطني أحمله عنك ، فقال : من يحمل وزري عنّي يوم القيامة ؟ فأتى وقرع الباب ، فقالت : من هذا ؟ قال : أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة فافتحي فإنّ معي شيئاً للصبيان.
فقالت : رضي الله عنك وحكم بيني وبين عليّ بن أبي طالب ، فدخل وقال : انّي أحببت اكتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعلّلين الصبيان لأخبز أنا ، فقالت : أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر ، ولكن شأنك والصبيان ، فعلّلهم حتى أفرغ من الخبز.
قال : فعمدت إلى الدقيق فعجنته ، وعمد عليّ عليه السلام إلى اللحم فطبخه وجعل يلقّم الصبيان من اللحم والتمر وغيره ، فكلّما ناول الصبيان من ذلك شيئاً
____________
.
--------------------------------------------------------------------------------
قال له : يا بنيّ اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ ممّا أمر في أمرك.
فلمّا اختمر العجين قالت : يا عبدالله اسجر التنور ، فبادر لسجره ، فلمّا أشعله ولفح في وجهه جعل يقول : ذق يا عليّ هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى ، فرأته امرأة تعرفه فقالت : ويحك هذا أمير المؤمنين ، قال : فبادرت المرأة وهي تقول : واحيائي منك يا أمير المؤمنين ، فقال : بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك (1).
وروي أيضاً انّه دخل ضرار بن ضمرة الليثي على معاوية فقال له : صف لي عليّا فقال : أو تعفني من ذلك ، فقال : لا أعفيك.
فقال : كان والله بعيد المدى (2) ، شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته.
كان والله غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلّب كفّيه ويخاطب نفسه ، ويناجي ربّه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، كان والله فينا كأحدنا ، يدنينا اذا أتيناه ، ويجيبنا اذا سألناه.
وكان مع دنوّه منّا وقربنا معه لا نكلّمه لهيبته ، ولا نرفع عيننا لعظمته ، فان تبسم فمن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظّم أهل الدين ، ويحبّ المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الفقير من عدله.
فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت
____________
--------------------------------------------------------------------------------