19/11/2012
الساعة 2.35 صباحًا
دقات متسارعة على باب الغرفة رقم 208 في مشفى القلب، وقبل أن أصحو دخلت ممرضة الغرفة باستعجال لتسألني أنت زوجة فلان؟
-نعم
- موظف ينتظر في الخارج يريد بعض البيانات، أسرعي..
نهضت كالآلة إلى الحمام توضأت وارتديت ملابس الخروج كاملة فيما كانت الممرضة تستعجلني بإلحاح..
كبر شعوري أنها اللحظات الأخيرة!
على الباب وقف شخص مديرًا ظهره تحت إبطه دفتر كبير.. نعرفه كلنا...
سألني:
-زوجة فلان؟
-مات؟
كرر سؤاله:
-أرجوك الهدوء... أنت زوجته؟
كررت بهدوء شديد:
-مات؟
- رحمه الله
- أين هو؟
- في الدور السفلي
- أريد أن أراه!
- لا يمكن الآن وضعوه في الثلاجة... في الصباح ممكن.
- بل أريد أن أراه الآن!
-اتبعيني..
نزلنا بالمصعد إلى دور تحت الأرضي ممرات طويلة باردة إضاءة خافتة وهدوء الموت..
عند باب الثلاجة توقف نكست رأسي ..
فتح الباب وسحبه كشف وجهه كانت البشرة البيضاء المشربة بالحمرة قد اكتست زرقة امتدت من أعلى الوجه إلى أسفل الصدر..
لا أنسى تلك الصورة..
تلوت صلواتي ودعائي استغفرت له ..سامحته وسألت الله له الرحمة.. واستدرت خارجة بهدوء..
إلى غرفة الإنعاش حيث أمضى أسبوعه الأخير لا ونيس له سوى صوتي يسمعه القرآن.. وهو بلا حول ولا قوة.. تمتد الأنابيب في كل فتحات وجهه وجسده .. لا يتحرك منه إلا جفناه يومي بهما ويصلي بهما ..
سألت الطبيب المناوب ما الذي حصل ؟
- لم نستطع فعل المزيد.. أمر الله.. وعمره انتهى..
كنت أعلم هذا لكني وددت سماعه .. لم يقصّر أحد..
خرجت لا أرى شيئًا.. ولا أفكر بشيء.. صعدت إلى غرفتي صليت ركعتين أسأل الله الثبات ..
الموقف فوق طاقتي في مشفى بعيد..
الطريق غير آمنة وأولادي في مدينة أخرى لم يروا والدهم بسبب الحصار المفروض عليها، ولم يسمعوا صوته بسبب قطع الاتصالات..
جلست أقرأ القرآن وأكمل الجزء الأخير في الختمة..
عندما انتهيت كان الفجر قد أذّن.. صليت بدموعي ودعوت له كثيرًا ..
رافقتني صديقتي المقربة رحلة الصبر هذه يومًا بيوم.. خفف وجودها عني الكثير رغم أننا لم نتكلم ..
بل أني لم أكلم يومها أحدًا..
عند طلوع الشمس اتصلت بأخي الطبيب الذي كان سندي الوحيد بعد الله في هذه الأزمة وقد يسر لي كل ما يستطيع فعله.. كان صديقه.. وكان الخبر مؤلمًا له رغم توقعه!
حضر ومعه زوجته وقام بكل الإجراءات اللازمة لوضعه في سيارة الإسعاف..
كان علي العودة بجثمانه وحدي إلى مدينتنا ليدفن فيها..
وكان علي اجتياز كل الحواجز العسكرية على الطريق.. لم يستطع أحد الحضور من هناك!
ركبت في الصندوق إلى جواره في رحلته الأخيرة.. يوقفنا الحاجز ليرى الجنود الأوراق وشهادة الوفاة ..
أحدهم ينظر من النافذة يطرق على الزجاج لأنظر إليه..
وعلى حاجز آخر يفتح أحدهم الباب الخلفي للسيارة..
- اكشفي وجهه!
يرى الوجه الذي عاد له لونه الطبيعي
- رحمه الله..
ويقفل الباب بقوة.. وهكذا كل عدة كيلومترات..
وصلنا قرب أذان الظهر في مسافة كنا نقطعها في أقل من ساعة!
دار فيها شريط امتد خمسة وثلاثين عامًا بكل تفاصيله!
حين وصلنا كانت خيمة العزاء قد نصبت ونسوة السواد قد حضرن والقهوة المرة والمسبحات وقد حجزن لي مكاني وسطهن ..
كان كل شيء مرتب سلفًا دون رغبتي!..
بعد صلاة الظهر ساروا به إلى مثواه .. كانت السماء قد بدأت تمطر رذاذًا خفيفًا..
دخل أولادي باكين.. جلسوا القرفصاء يقبلون يدي .. يعتذرون عن ثلاثة أسابيع أمضيتها معه في ذلك المشفى البعيد.
لم يستطع أحدهم الوصول إليها لينوب عني.. في الواقع لم نسمح لهم.
أمضيتها معه وحدي.. ورجعت به وحدي ..
في نفس ذلك اليوم.. دفن ستة شباب شهداء..
أنسانا خبر استشهادهم أن نكمل عزاءنا!
قد تكون نقطة في بحر الفقد الهائج الذي يعصف بوطني..لكنها علامة فارقة في طريق حياتي!
ذهاب لأعلى
