لماذا كان المفسرون يوردون الأقوال في التفسير بدون فرز الصحيح عن الضعيف؟
فقد جرت عادت المتقدمين من المحدثين والمفسرين والمؤرخين أن يوردوا كل ما في الباب من الأحاديث والأخبار، ولو كان غير صحيح الإسناد، أو كان إسناده باطلاً يعلمون بطلانه، اتكالاً منهم على ذكر سنده. فإنّ ذكر السند يبرئ الذمّة من المؤاخذة في إيراده، إذ قد كان "عِلم الإسناد" يعيش فيهم على أتم وجه. وما أحسن ما قاله الأستاذ السيد محب الدين الخطيب في كلمة له في "مجلة الأزهر" في المجلد 24 (ص214) عنوانُها: "المراجع الأولى في تاريخنا". وبدأ فيها بالحديث عن كتاب "تاريخ الأمم والملوك" للإمام المحدّث المفسّر المؤرّخ ابن جرير الطبري –رحمه الله تعالى– فقال:«إن مثل الطبري ومن في طبقته من العلماء الثقات المتثبتين -في إيرادهم الأخبار الضعيفة- كمثل رجال النيابة -القضاء- الآن، إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية، فإنهم يجمعون كل ما تتصل إليه أيديهم من الأدلّة والشواهد المتصلة بها. مع علمهم بتفاهة بعضها أو ضعفه، اعتماداً منه على أن كل شيء سيقدر قدره».
وهكذا الطبريُّ وكبار حملة الأخبار من سلفنا، كانوا لا يفرطون في خبر مهما علموا من ضعف ناقله، خشية أن يفوتهم بإهماله شيءٌ من العلم، ولو من بعض النواحي. إلا أنهم يوردون كل خبر معزوّاً إلى راويه، ليعرف القارئ قوة الخبر من كون رواته ثقات، أو ضعفه من كون رواته لا يُوثق بهم، وبذلك يرون أنهم أدّوا الأمانة. ووضعوا بين أيدي القرّاء كلَّ ما وصلت إليه أيديهم. قال الحافظ ابن حجر: «أكثر المحدثين في الأعصار الماضية –من سنة مئتين وهلمَّ جرَّا– إذا ساقوا الحديث بإسناده، اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته». وقال في ترجمة الطبراني –سليمان بن أحمد– من "لسان الميزان": «إن الحُفَّاظ الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة –مع سكوتهم عنها– على ذكرهم الأسانيد، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برئوا من عُهدته، وأسندوا أمره إلى النظر في إسناده».
ومن فوائد إيراد الحادث الواحد بأخبار من طرق شتى وإن كانت ضعيفة: قول شيخ الإسلام ابن تميمة في "مقدمة في أصول التفسير" (ص30): «إن تعدُّد الطرُّق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة: يوجب العلم بمضمون المنقول –أي بالقدر المشترك في أصل الخبر– لكن هذا ينتفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين -أي نزعاتهم والجهة التي يحتمل أن يتعصَّب لها بعضهم-. وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول و السيئ الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو مثل ذلك. ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار مالا يصلح لغيره، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره».
منقول.