عن النوَّاس بن سمعان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
((البرُّ حُسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرِهت أن يطَّلع عليه الناس))؛ رواه مسلم.
شرح الحديث:
(البر): كلمة تدل على كثرة الخير.
(حسن الخلق)؛ أي: حسن الخُلق مع الله، وحسن الخلق مع عباد الله
فأما حسن الخلق مع الله، فبأن تتلقى أحكامه الشرعية بالرضا والتسليم، وألا يكون في نفسك حرَجٌ منها، ولا تَضيق بها ذرعًا، فإذا أمرك الله بالصلاة والزكاة والصيام وغيرها، فإنك تقابل هذا بصدر منشرحٍ.
وأيضًا حسن الخلق مع الله في أحكامه القدرية؛ حيث يأتيه ما يُحزنه في ماله أو في أهله، أو في نفسه أو في مجتمعه، والذي قدَّر ذلك هو الله - عز وجل - فتكون حسن الخلق مع الله، وتقوم بما أُمرت به، وتَنزجر عما نُهيت عنه.
أما حُسن الخلق مع الناس، فقد سبق أنه بذْلُ الندى وكفُّ الأذى، والصبر على الأذى وطلاقة الوجه.
وهذا هو البر، والمراد به: البر المطلق، وهناك برٌّ خاص كبرِّ الوالدين مثلاً، وهو الإحسان إليهما بالمال والبدن والجاه، وسائر الإحسان.
وهل يدخل بر الوالدين في قوله: (حسن الخلق)؟
فالجواب: نعم يدخل؛ لأن بر الوالدين لا شك أنه خُلق حسن محمود، كل أحد يَحمَد فاعله عليه.
(والإثم ): هو ضد البر؛ لأن الله - تعالى - قال: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ... ﴾ [المائدة: 2].
(الإثم ما حاك في نفسك)؛ أي: تردَّد وصِرت منه في قلقٍ، (وكرِهت أن يطَّلع عليه الناس)؛ لأنه محل ذمٍّ وعيب، فتجدك متردِّدًا فيه، وتَكره أن يطَّلع الناس عليك، وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافيًا سليمًا، فهذا هو الذي يَحيك في نفسه ما كان إثمًا، ويَكره أن يطلع عليه الناس، أما المتمردون الخارجون عن طاعة الله - الذين قسَت قلوبهم - فهؤلاء لا يبالون، بل ربما يتبجَّحون بفعل المنكر والإثم؛ فالكلام هنا ليس عامًّا لكل أحد، بل هو خاص لمن كان قلبه سليمًا طاهرًا نقيًّا، فإنه إذا همَّ بإثم - وإن لم يعلم أنه إثمٌ من قِبَل الشرع - تجده متردِّدًا يكره أن يطلع الناس عليه، وهذا أَمارة وليس بقاعدة؛ أي: علامة على الإثم في قلب المؤمن.
من فوائد الحديث:
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُعطي جوامع الكلم، يتكلم بالكلام اليسير وهو يحمل معانيَ كثيرة؛ لقوله: ((البر حُسن الخلق))، كلمة جامعة مانعة.
2- الحث على حسن الخلق، وأنك متى أحْسَنت خُلقك، فإنك في برٍّ.
فإن قال قائل: وهل البر ينافي الغضب لله - عز وجل - يعني: لو غضِبت على إنسان وشَددت عليه، فهل ذلك ينافي البر وحُسن الخلق؟!
الجواب: إن ذلك لا ينافي حسن الخلق، بل هذا من حسن الخلق؛ لأن المقصود به التربية والتوجيه، فهو من حسن الخلق؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينتقم لنفسه، لكن إذا انتُهكت محارم الله - عز وجل - كان أشد الناس فيها.
3- إن المؤمن الذي قلبه صافٍ سليم، يَحيك في نفسه الإثم وإن لم يعلم أنه إثمٌ، بل يتردَّد فيه؛ لقوله: ((والإثم ما حاك في نفسك))، وهو يخاطب النوَّاس بن سمعان وأمثاله، وموقف الإنسان إذا حاك في نفسه شيء - هل هو إثم أو غير إثمٍ؟ - أن يدَع هذا حتى يتبيَّن؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك)).
ولا تتجاسر، فتقع في الشُّبهات، ومن وقَع في الشبهات، فقد وقع في الحرام؛ كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
4- إن الرجل المؤمن يكره أن يطَّلع الناس على آثامه؛ لقوله: ((وكرهت أن يطلع عليه الناس))، أما الرجل الفاجر المتمرد، فلا يَكره أن يطلع الناس على آثامه، بل من الناس مَن يفتخر ويُفاخر بالمعصية؛ كما يوجد في الفسَقة الذين يذهبون إلى بلاد كلها فجور وخمور، ثم يأتي مفتخرًا، فيتحدث أنه فجَر بكم امرأة، وأنه شرِب كم كأسًا من الخمر، فتكون السيئة عنده حسنة، ويكون مستهينًا بأحكام الله - عز وجل - ومثل هذا يُستتاب، فإن تاب وإلا، قُتِل؛ لأن هذا من أعظم السخرية بدين الله - عز وجل - يأتي يتبجَّح بما وصفه الله بأنه فاحشة كالزنا، ويأتي يتبجح بشرب مَن لعَن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاربه، فأين الدين؟ وأين الإيمان؟
وإذا عومِل مثل هذا بما يستحق، ارتدَع كثير من الناس عن مثل هذه الأمور، والله المستعان، والله أعلم.